فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (6):

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أردف البيان لأوصاف المؤمنين التعريف بأحوال الكافرين وكانوا قد انقسموا على مصارحين ومنافقين وكان المنافقون قسمين جهالًا من مشركي العرب وعلماء من كفار بني إسرائيل كان الأنسب ليفرغ من قسم برأسه على عجل البداءة أولًا بالمصارحين فذكر ما أراد من أمرهم في آيتين، لأن أمرهم أهون وشأنهم أيسر لقصدهم بما يوهنهم بالكلام أو بالسيف على أن ذكرهم على وجه يعم جميع الأقسام فقال مخاطبًا لأعظم المنعم عليهم على وجه التسلية والإعجاز في معرض الجواب لسؤال من كأنه قال: هذا حال الكتاب للمؤمنين فما حاله للكافرين؟ {إن الذين كفروا} أي حكم، بكفرهم دائمًا حكمًا نفذ ومضى فستروا ما أقيم من الأدلة على الوحدانية عن العقول التي هيئت لإدراكه والفطر الأولى التي خلصت عن مانع يعوقها عن الانقياد له وداموا على ذلك بما دل عليه السباق بالتعبير عن أضدادهم بما يدل على تجديد الإيمان على الدوام واللحاق بالختم والعذاب، ولعله عبر بالماضي والموضع للوصف تنفيرًا من مجرد إيقاع الكفر ولو للنعمة وليشمل المنافقين وغيرهم.
ولما دل هذا الحال على أنهم عملوا ضد ما عمله المؤمنون من الانقياد كان المعنى {سواء عليهم أأنذرتهم} أي إنذارك في هذا الوقت بهذا الكتاب {أم لم تنذرهم} أي وعدم إنذارك فيه وبعده وقد انسلخ عن أم والهمزة معنى الاستفهام، قال سيبوية: جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء في قولك: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة. انتهى.
ولعله عبر بصورة الاستفهام وقد سلخت عن معناه إفهامًا لأنهم توغلوا في الكفر توغل من وصل في الحمق إلى أنه لو شاهد الملك يستفهمك عنه ما آمن.
ولما كان كأنه قيل في أي شيء استوت حالتاهم قبل في أنهم {لا يؤمنون} وهي دليل على خصوص كونه هدى للمتقين وعلى وقوع التكليف بالممتنع لغيره فإنه سبحانه كلفهم الإيمان وأراد منهم الكفران، فصار ممتنعًا لإرادته عدم وقوعه، والتكليف به جار على سنن الحكمة فإن إرادة عدم إيمانهم لم تخرج إيمانهم عن حيز الممكن فيما يظهر، لعدم العلم بما أراد الله من كل شخص بعينه، فهو على سنن الابتلاء ليظهر في عالم الشهادة المطيع من غيره لإقامة الحجة؛ ويأتي في الصّافّات عند {افعل ما تؤمر} [الصافات: 102] تتمة لهذا.
قال الحرالي: فحصل بمجموع قوله: {سواء عليهم} إلى آخره وبقوله: {لا يؤمنون} خبر تام عن سابقة أمرهم ولاحقة كونهم، فتم بالكلامين الخبر عنهم خبرًا واحدًا ملتئمًا كتبًا سابقًا وكونًا لاحقًا. انتهى.
وكل موضع ذكر فيه الكفر فإنما عبر به إشارة إلى أن الأدلة الأصلية في الوضوح بحيث لا تخفى على أحد ولا يخالفها إلا من ستر مرآة عقله إما عنادًا وإما بإهمال النظر السديد والركون ألى نوع تقليد. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{أأنذرتهم} بهمزتين: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن ذكوان.
وروى الحلواني عن هشام {اءنذرتهم} بهمزتين بينهما مدة، والباقون يهمزون الأولى ويلينون الثانية.
والتليين جعل الهمزة بين بين أي بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركة الهمزة.
{وعلى أبصارهم} ممالة: أبو عمرو وعلي غير ليث وابن حمدون وحمدويه وحمزة، وفي رواية ابن سعدان وأبي عمرو.
كذلك قوله عز وجل: {بقنطار} و{بالأسحار} و{كالفخار} و{الغار} و{من أنصار} و{أشعارها} وأشباه ذلك حيث كان يعني إذا كان قبل الألف حرف مانع وبعدها راء مكسورة في موضع اللام، لأن الراء المكسورة تغلب الحروف المستعلية.
{غشاوة} بالفصل.
وقرأ حمزة في رواية خلف وابن سعدان وخلف لنفسه.
وأبو إسحاق إبراهيم بن أحمد عن أبي الحرث عن علي وورش من طريق البخاري مدغمة النون والتنوين في الواو في جميع القرآن.
{عظيم} بالإشمام في الوقف، وكذلك إذا كانت الكلمة مكسورة: حمزة وعلي وخلف وهو الاختيار عندنا.

.الوقوف:

{لا يؤمنون} O {على سمعهم} ط لأن الواو للاستئناف.
{غشاوة} ز لأن الجملتين وإن اتفقتا نظمًا فالأولى بيان وصف موجود، والثانية إثبات عذاب موعود.
{عظيم}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال القرطبي:

لما ذكر المؤمنين وأحوالهم ذكر الكافرين ومآلهم.
والكفر ضدّ الإيمان وهو المراد في الآية.
وقد يكون بمعنى جحود النعمة والإحسان؛ ومنه قوله عليه قوله عليه السلام في النساء في حديث الكسوف: «ورأيت النار فلم أر منظرًا كاليوم قطّ أفظع ورأيت أكثر أهلها النساء» قيل: بِمَ يا رسول الله؟ قال: «بكفرهن»؛ قيل أيكفرن بالله؟ قال: «يكفرن العَشِير ويكفرن الإحسان لو أحسنتَ إلى إحداهن الدهرَ كلّه ثم رأتْ منك شيئًا قالت ما رأيت منك خيرًا قط». أخرجه البخاري وغيره.
وأصل الكَفْر في كلام العرب: الستر والتغطية؛ ومنه قول الشاعر:
في ليلة كَفَر النُّجُومَ غَمَامُها

أي سترها.
ومنه سُميَ الليل كافرًا؛ لأنه يغطي كل شيء بسواده؛ قال الشاعر:
فَتَذَكَّرَا ثَقَلًا رَثيدًا بَعْدَمَا ** ألقَتْ ذُكاءُ يَمينَها في كافر

ذكاء بضم الذال والمدّ: اسم للشمس؛ ومنه قول الآخر:
فوردَتْ قبل انبلاج الفجرِ ** وابن ذُكاءٍ كَامِنٌ في كَفْر

أي في ليل.
والكافر أيضًا: البحر والنهر العظيم.
والكافر: الزارع، والجمع كُفّار، قال الله تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ} [الحديد: 20] يعني الزُّراع لأنهم يغطون الحب.
ورماد مكفور: سفت الريح عليه التراب.
والكافر من الأرض: ما بَعُد عن الناس لا يكاد ينزله ولا يمرّ به أحد؛ ومَن حلّ بتلك المواضع فهم أهل الكفور.
ويقال الكفور: القُرَى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} هذا انتقال من الثناء على الكِتَاب ومتقلِّديه ووصفِ هديه وأَثَرِ ذلك الهدى في الذين اهتدوا به والثناء عليهم الراجع إلى الثناء على الكتاب لمَّا كان الثناء إنما يظهر إذا تحققت آثار الصفة التي استحق بها الثناء، ولما كان الشيء قد يقَدَّر بضده انتقل إلى الكلام على الذين لا يحصل لهم الاهتداء بهذا الكتاب، وسجل أن حرمانهم من الاهتداء بهديه إنما كان من خبث أنفسهم إذ نَبَوْا بها عن ذلك، فما كانوا من الذين يفكرون في عاقبة أمورهم ويحذرون من سوء العواقب فلم يكونوا من المتقين، وكان سواء عندهم الإنذار وعدمه فلم يتلقوا الإنذار بالتأمل بل كان سواء والعدم عندهم، وقد قرنت الآيات فريقين فريقًا أضمر الكفر وأعلنه وهم من المشركين كما هو غالب اصطلاح القرآن في لفظ {الذين كفروا} وفريقًا أظهر الإيمان وهو مخادع وهم المنافقون المشار إليهم بقوله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا} [البقرة: 8].
وإنما قطعت هاته الجملة عن التي قبلها لأن بينهما كمال الانقطاع إذ الجمل السابقة لذكر الهدى والمهتدين، وهذه لذكر الضالين فبينهما الانقطاع لأجل التضاد، ويعلم أن هؤلاء قسم مضاد للقسمين المذكورين قبله من سياق المقابلة.
وتصدير الجملة بحرف التأكيد إما لمجرد الاهتمام بالخبر وغرابته دون رَدِّ الإنكار أو الشك؛ لأن الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وللأمة وهو خطاب أُنُف بحيث لم يسبق شك في وقوعه، ومجيء إن للاهتمام كثير في الكلام وهو في القرآن كثير.
وقد تكون إن هنا لرد الشك تخريجًا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر؛ لأن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية الكافرين تجعله لا يقطع الرجاء في نفع الإنذار لهم وحاله كحال من شك في نفع الإنذار، أو لأن السامعين لما أجرى على الكتاب من الثناء ببلوغه الدرجة القصوى في الهداية يطمعهم أن تؤثر هدايته في الكافرين المعرضين وتجعلهم كالذين يشكون في أن يكون الإنذار وعدمه سواء فأخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ونزل غير الشاك منزلة الشاك.
وقد نقل عن المبرد أن إنَّ لا تأتي لرد الإنكار بل لرد الشك. اهـ.
فصل في ذكر حد الكفر:

.قال الفخر:

اعلم أنه صعب على المتكلمين ذكر حد الكفر، وتحقيق القول فيه أن كل ما ينقل عن محمد صلى الله عليه وسلم أنه ذهب إليه وقال به فإما أن يعرف صحة ذلك النقل بالضرورة أو بالاستدلال أو بخبر الواحد.
أما القسم الأول: وهو الذي عرف بالضرورة مجيء الرسول عليه السلام به فمن صدقه في كل ذلك فهو مؤمن، ومن لم يصدقه في ذلك، فإما بأن لا يصدقه في جميعها أو بأن لا يصدقه في البعض دون البعض، فذلك هو الكافر، فإذن الكفر عدم تصديق الرسول في شيء مما علم بالضرورة مجيئه به، ومثاله من أنكر وجود الصانع، أو كونه عالمًا قادرًا مختارًا أو كونه واحدًا أو كونه منزهًا عن النقائص والآفات، أو أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو صحة القرآن الكريم أو أنكر الشرائع التي علمنا بالضرورة كونها من دين محمد صلى الله عليه وسلم كوجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج وحرمة الربا والخمر، فذلك يكون كافرًا؛ لأنه ترك تصديق الرسول فيما علم بالضرورة أنه من دينه.
فأما الذي يعرف بالدليل أنه من دينه مثل كونه عالمًا بالعلم أو لذاته وأنه مرئي أو غير مرئي، وأنه خالق أعمال العباد أم لا فلم ينقل بالتواتر القاطع لعذر مجيئه عليه السلام بأحد القولين دون الثاني، بل إنما يعلم صحة أحد القولين وبطلان الثاني بالاستدلال، فلا جرم لم يكن إنكاره، ولا الإقرار به داخلًا في ماهية الإيمان فلا يكون موجبًا للكفر، والدليل عليه أنه لو كان ذلك جزء ماهية الإيمان لكان يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يحكم بإيمان أحد إلا بعد أن يعرف أنه هل يعرف الحق في تلك المسألة، ولو كان الأمر كذلك لاشتهر قوله في تلك المسألة بين جميع الأمة، ولنقل ذلك على سبيل التواتر، فلما لم ينقل ذلك دل على أنه عليه السلام ما وقف الإيمان عليها، وإذا كان كذلك وجب أن لا تكون معرفتها من الإيمان، ولا إنكارها موجبًا للكفر، ولأجل هذه القاعدة لا يكفر أحد من هذه الأمة ولا نكفر أرباب التأويل.
وأما الذي لا سبيل إليه إلا برواية الآحاد فظاهر أنه لا يمكن توقف الكفر والإيمان عليه.
فهذا قولنا في حقيقة الكفر.
فإن قيل يبطل ما ذكرتم من جهة العكس بلبس الغيار وشد الزنار وأمثالهما فإنه كفر مع أن ذلك شيء آخر سوى ترك تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما علم بالضرورة مجيئه به، قلنا هذه الأشياء في الحقيقة ليست كفرًا لأن التصديق وعدمه أمر باطن لا اطلاع للخلق عليه، ومن عادة الشرع أنه لا يبني الحكم في أمثال هذه الأمور على نفس المعنى، لأنه لا سبيل إلى الاطلاع، بل يجعل لها معرفات وعلامات ظاهرة ويجعل تلك المظان الظاهرة مدارًا للأحكام الشرعية، وليس الغيار وشد الزنار من هذا الباب، فإن الظاهر أن من يصدق الرسول عليه السلام فإنه لا يأتي بهذه الأفعال، فحيث أتى بها دل على عدم التصديق فلا جرم الشرع يفرع الأحكام عليها، لا أنها في أنفسها كفر، فهذا هو الكلام الملخص في هذا الباب والله أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} كلام مستأنف يتميز به حال الكفرة الغواة المردة العتاة سيق إثر بيان بديع أحوال أضدادهم المتصفين بنعوت الكمال الفائزين بمطالبهم في الحال والمآل، ولم يعطف على سابقه عطف القصة على القصة لأن المقصود من ذلك بيان اتصاف الكتاب بغاية الكمال في الهداية تقريرًا لكونه يقينًا لا مجال للشك فيه، ومن هذا ببيان اتصاف الكفار بالإصرار على الكفر والضلال بحيث لا يجدي فيهم الإنذار، والقول إنهما مسوقان لبيان حال الكتاب وأنه هدى لقوم وليس هدى لآخرين لا يجدي نفعًا لأن عدم كونه هدى لهم مفهوم تبعًا لا مقصود أصالة على أن الانتفاع به صفة كمال له يؤيد ما سبق من تفخيم شأنه وإعلاء مكانه بخلاف عدم الانتفاع.
وقيل إن ترك العطف لكونه استئنافًا آخر كأنه قيل ثانيًا ما بال غيرهم لم يهتدوا به؟ فأجيب بأنهم لإعراضهم وزوال استعدادهم لم ينجع فيهم دعوة الكتاب إلى الإيمان وليس بشيء لأنه بعد ما تقرر أن تلك الأوصاف المختصة هي المقتضية لم يبق لهذا السؤال وجه، وأغرب من هذا تخيل أن الترك لغاية الاتصال زعمًا أن شرح تمرد الكفار يؤكد كون الكتاب كاملًا في الهداية نعم يمكن على بعد أن يوجه السؤال بأن يقال: لو كان الكتاب كاملًا لكان هدى للكفار أيضًا فيجاب بأن عدم هدايته إياهم لتمردهم وتعنتهم لا لقصور في الكتاب.
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته ** والذنب للطرف لا للنجم في الصغر

والعطف في قوله تعالى: {إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ} [الانفطار: 13] لاتحاد الجامع إذ الجملة الأولى مسوقة لبيان ثواب الأخيار، والثانية لذكر جزاء الأشرار مع ما فيهما من الترصيع والتقابل وقد عد التضاد وشبهه جامعًا يقتضي العطف لأن الوهم ينزل المتضادين منزلة المتضايفين فيجتهد في الجمع بينهما في الذهن حتى قالوا إن الضد أقرب خطورًا بالبال مع الضد من الأمثال.
وصدرت الجملة بأن اعتناء بمضمونها وقد تصدر بها الأجوبة لأن السائل لكونه مترددًا يناسبه التأكيد وتعريف الموصول إما للعهد والمراد من شافههم صلى الله عليه وسلم بالإنذار في عهده وهم مصرون على كفرهم أو للجنس كما في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ} [البقرة: 171] وكقول الشاعر:
ويسعى إذا ابني لهدم صالحي ** وليس الذي يبني كمن شأنه الهدم

فهو حينئذٍ عام خصه العقل بغير المصري، والإخبار بما ذكر قرينة عليه أو المخصص عود ضمير خاص عليه من الخبر لا الخبر نفسه وقد ذكر الأصوليون ثلاثة أقوال فيما إذا عاد ضمير خاص على العام فقيل يخصصه وقيل لا وقيل بالوقف ومثلوه بقوله تعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثلاثة قُرُوء} [البقرة: 228] فإن الضمير في بعولتهن للرجعيات فقط.
وما ذكره بعض أجلة المفسرين أن المخصص هنا الخبر أورد عليه إن تعين المخبر عنه بمفهوم الخبر ينافي ما تقرر من أن المخبر عنه لابد أن يكون متعينًا عند المخاطب قبل ورود الخبر فلو توقف تعين المخبر عنه على الخبر لزم الدور.
والكفر بالضم مقابل الإيمان وأصله المأخوذ منه الكفر بالفتح مصدر بمعنى الستر يقال كفر يكفر من باب قتل، وما في الصحاح من أنه من باب ضرب فالظاهر أنه غير صحيح وإن لم ينبه عليه في القاموس وشاع استعماله في ستر النعمة خاصة وفي مقابل الإيمان لأن فيه ستر الحق ونعم الفيض المطلق، وقد صعب على المتكلمين تعريف الكفر الشرعي الغير التبعي واختلفوا في تعريفه على حسب اختلافهم في تعريف الإيمان إلا أن الذي عول عليه الشافعية رحمهم الله تعالى أنه إنكار ما علم مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم به مما اشتهر حتى عرفه الخواص والعوام فلا يكفر جاحد المجمع عليه على الإطلاق بل من جحد مجمعًا عليه فيه نص وهو من الأمور الظاهرة التي يشترك في معرفتها سائر الناس كالصلاة وتحريم الخمر ومن جحد مجمعًا عليه لا يعرفه إلا الخواص كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب فليس بكافر ومن جحد مجمعًا عليه ظاهرًا لا نص فيه ففي الحكم بتكفيره خلاف، وأما ساداتنا الحنفية رضي الله تعالى عنهم فلم يشترطوا في الإكفار سوى القطع بثبوت ذلك الأمر الذي تعلق به الإنكار لا بلوغ العلم به حد الضرورة هذا أمر عظيم وكأنه لذلك قال ابن الهمام: يجب حمله على ما إذا علم المنكر ثبوته قطعًا لأن مناط التكفير التكذيب أو الاستخفاف ولا يرد على أخذ الإنكار في التعريف أن أهل الشرع حكموا على بعض الأفعال والأقوال بأنها كفر وليست إنكارًا من فاعلها ظاهرًا لأنهم صرحوا بأنها ليست كفرًا وإنما هي دالة عليه فأقيم الدال مقام مدلوله حماية لحريم الدين وصيانة لشريعة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وليست بعض المنهيات التي تقتضيها الشهوة النفسانية كذلك فلا يبطل الطرد بغير الكفر من الفسق فليس شعار الكفار مثلًا ليس في الحقيقة كفرًا كما قاله مولانا الإمام الرازي وغيره إلا أنهم كفروا به لكونه علامة ظاهرة على أمر باطن وهو التكذيب لأن الظاهر أن من يصدق الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأتي به فحيث أتى به دل على عدم التصديق وهذا إذا لم تقم قرينة على ما ينافي تلك الدلالة ولهذا قال بعض المحققين: إن لبس شعار الكفرة سخرية بهم وهزلًا ليس بكفر.
وقال مولانا الشهاب وليس ببعيد إذا قامت القرينة وأنا أقول إذا قامت القرينة على غرض آخر غير السخرية والهزل لا كفر به أيضًا كما يظنه بعض من ادعى العلم اليوم وليس منه في قبيل ولا دبير ولا في العير ولا النفير ثم الإنكار هنا بمعنى الجحود ولا يرد أن من تشكك أو كان خاليًا عن التصديق والتكذيب ليس بمصدق ولا جاحد وأنه قول بالمنزلة بين المنزلتين وهو باطل عند أهل السنة لأنه يجوز أن يكون كفر الشاك والخالي لأن تركهما الإقرار مع السعة والأعمال بالكلية دليل كما قاله السالكوتي على التكذيب كما أن التلفظ بكلمة الشهادة دليل على التصديق وقيل هو هاهنا من أنكرت الشيء جهلته فلا ورود أيضًا، وفيه أن الإنكار بمعنى الجهل يقابل المعرفة فيلزم أن يكون العارف الغير المصدق كأحبار اليهود واسطة فالمحذور باق بحاله.
وعرف في المواقف الكفر بأنه عدم تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض ما علم مجيئه به بالضرورة ولعله أيضًا يقول بإقامة بعض الأفعال والأقوال مقام عدم التصديق واعترض على أخذ الضرورة بأن ما ثبت بالإجماع قد يخرج من الضروريات وكذا براءة عائشة رضي الله تعالى عنها ثبتت بالقرآن، وأدلته اللفظية غير موجبة للعلم فتخرج عن الضروريات أيضًا.
وأجيب بأن خروج ما ثبت بالإجماع عن الضروريات ممنوع والدلالة اللفظية تفيد العلم بانضمام القرائن وهي موجودة في براءة عائشة رضي الله تعالى عنها ولقد عد أصحابنا رضي الله تعالى عنهم في باب الإكفار أشياء كثيرة لا أراها توجب إكفارًا والإخراج عن الملة أمر لا يشبهه شيء فينبغي الاتئاد في هذا الباب مهما أمكن، وقول ابن الهمام: أرفق بالناس وفي أبكار الأفكار في هذا البحث ما يقضي منه العجب ولا أرغب في طول بلا طول وفضول بلا فضل. اهـ.